سورة التوبة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{بَرَاءةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة {مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين} من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف، وليس بصلة كما في قولك (برئت من الذين)أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول (كتاب من فلان إلى فلان)، أو مبتدأ لتخصيصها بصفتها والخبر {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ} كقولك (رجل من بني تميم في الدار) والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم {فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فسيروا في الأرض كيف شئتم. والسيح: السير على مهل. روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها. وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر. فقال: لا يؤدّي عني إلا رجل مني. فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقال عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف؛ والأشهر الأربعة: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، أو عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أمنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم وأن ذلك قد نسخ {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} لا تفوتونه وإن أمهلكم {وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين} مذلهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
{وَأَذّان مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس} ارتفاعه كارتفاع {بَرَاءةٌ} على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى إخبار بثبوت البراءة، والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث {يَوْمَ الحج الأكبر} يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج، أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف، والنحر، والحلق، والرمي، ووصف الحج بالأكبر، لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أَنَّ الله بَرِئ مّنَ المشركين} أي بأن الله حذفت صلة الأذان تخفيفاً {وَرَسُولُهُ} عطف على المنوي في {بَرِيء} أو على الابتداء وحذف الخبر أي ورسوله بريء، وقرئ بالنصب عطفاً على إسم {إن}، وبالجر على الجوار، أو على القسم كقولك (لعمرك). وحكي أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية {فَإِن تُبْتُمْ} من الكفر والغدر {فَهُوَ} أي التوبة {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الأصرار على الكفر {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن التوبة أو تبتم على التولي والإعراض عن الإسلام {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله} غير سابقين الله ولا فائتين أخذه وعقابه {وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم {إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين} استثناء من قوله: {فَسِيحُواْ فِى الأرض} والمعنى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} من شروط العهد أي وفوا بالعهد ولم ينقضوه. وقرئ {لَمْ ينقضوكم} أي عهدكم وهو أليق لكن المشهورة أبلغ لأنه في مقابلة التمام {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً} ولم يعاونوا عليكم عدواً {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} فأدوه إليهم تاماً كاملاً {إلى مُدَّتِهِمْ} إلى تمام مدتهم، والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} يعني أن قضية التقوى ألا يسوّي بين الفريقين فاتقوا الله في ذلك.
{فَإِذَا انسلخ} مضى أو خرج {الأشهر الحرم} التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا {فاقتلوا المشركين} الذين نقضوكم وظاهروا عليكم {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} من حل أو حرم {وَخُذُوهُمْ} وأسروهم، والأخذ: الأسر {واحصروهم} وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} كل ممر ومجتاز ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف. {فَإِن تَابُواْ} عن الكفر {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم {أَنَّ الله غَفُورٌ} بستر الكفر والغدر بالإسلام {رَّحِيمٌ} برفع القتل قبل الأداء بالإلتزام {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} {أَحَدٌ} مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر أي وإن استجارك أحد استجارك، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمّنه {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر على أن المستأمن لا يؤذي وليس له الإقامة في دارنا ويمكن من العود {ذلك} أي الأمر بالإجارة في قوله {فَأَجِرْهُ} {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} {كَيْفَ} استفهام في معنى الاستنكار أي مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله {إِلاَّ الذين عاهدتم} أي ولكن الذين عاهدتم منهم {عِندَ المسجد الحرام} ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم {فَمَا استقاموا لَكُمْ} ولم يظهر منهم نكث أي فما أقاموا على وفاء العهد {فاستقيموا لَهُمْ} على الوفاء.
و {ما} شرطية أي فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين.
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوماً أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ} لا يراعوا حلفاً ولا قرابة {وَلاَ ذِمَّةً} عهداً {يُرْضُونَكُم بأفواههم} بالوعد بالإيمان والوفاء بالعهد وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد {وتأبى قُلُوبُهُمْ} الإيمان والوفاء بالعهد {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} ناقضون العهد أو متمردون في الكفر، لا مروءة تمنعهم عن الكذب، ولا شمائل تردعهم عن النكث كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عنهما.


{اشتروا} استبدلوا {بئايات الله} بالقرآن {ثَمَناً قَلِيلاً} عرضاً يسيراً وهو إتباع الأهواء والشهوات {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس الصنيع صنيعهم {لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ولا تكرار، لأن الأول على الخصوص حيث قال: {فيكُمْ} والثاني على العموم لأنه قال: {فِى مُؤْمِنٍ} {وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون} المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة {فَإِن تَابُواْ} عن الكفر {وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فإخوانكم} فهم إخوانكم على حذف المبتدأ {فِى الدين} لا في النسب {وَنُفَصّلُ الأيات} ونبينها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يفهمون فيتفكرون فيها وهذا اعتراض، كأنه قيل: وإن من تأمل تفصيلها فهو العالم تحريضاً على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي نقضوا العهود المؤكد بالأيمان {وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ} وعابوه {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم وهم رؤساء الشرك، أو زعماء قريش الذين هموا بإخراج الرسول وقالوا: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة. {أَئِمَّةَ} بهمزتين: كوفي وشامي، الباقون: بهمزة واحدة غير ممدودة بعدها ياء مكسرورة، أصلها (أأممة) لأنها جمع إمام كعماد وأعمدة، فنقلت حركة الميم الأولى إلى الهمزة الساكنة وأدغمت في الميم الأخرى. فمن حقق الهمزتين أخرجهما على الأصل، ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها {إنهم لا أيمان لهم} وإنما أثبت لهم الإيمان في قوله {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم} لأنه أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال: {لا إيمان لَهُمْ} على الحقيقة وهو دليل لنا على أن يمين الكافر لا تكون يميناً، ومعناه عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يوفون بها لأن يمينهم يمين عنده حيث وصفها بالنكث. {لا أيمان} شامي أي لا إسلام {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} متعلق ب {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} وما بينها اعتراض أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم انتهاءهم عما هم عليه بعدما وجد منهم من العظائم، وهذا من غاية كرمه على المسيء. ثم حرض على القتال فقال:
{أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم} التي حلفوها في المعاهدة {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكة {وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} بالقتال والبادئ أظلم فما يمنعكم من أن تقاتلوهم، وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب {أَتَخْشَوْنَهُمْ} توبيخ على الخشية منهم {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} بأن تخشوه فقاتلوا أعداءه {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فاخشوه أي إن قضية الإيمان الكامل أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه.
ولما وبخهم الله على ترك القتال جرد لهم الأمر به بقوله:
{قاتلوهم} ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم بقوله {يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} قتلاً {وَيُخْزِهِمْ} أسراً {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} يغلّبكم عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} طائفة منهم وهم خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} لما لقوا منهم من المكروه وقد حصل الله هذه المواعيد كلها فكان دليلاً على صحة نبوته {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء} ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وكان ذلك أيضاً، فقد أسلم ناس منهم كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وهي ترد على المعتزلة قولهم (إن الله تعالى شاء أن يتوب على جميع الكفرة لكنهم لا يتوبون باختيارهم). {والله عَلِيمٌ} يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان {حَكِيمٌ} في قبول التوبة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} {أم} منقطعة والهمزة فيها للتوبيخ على وجود الحسبان أي لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولما معناها التوقع، وقد دلت على أن تبين ذلك متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} معطوف على {جاهدوا} داخل في حيز الصلة كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كقولك (ما علم الله مني ما قيل فيّ). تريد ما وجد ذلك مني، والمعنى أحسبتم أن تتركوا بلا مجاهدة ولا براءة من المشركين {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر فيجازيكم عليه.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما صح لهم وما استقام {أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} {مساجد الله} مكي وبصري يعني المسجد الحرام، وإنما جمع في القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد، أو أريد جنس المساجد وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس، وهو آكد إذ طريقه طريق الكناية كما تقول: (فلان لا يقرأ كتب الله) فإنه أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك {شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} باعترافهم بعبادة الأصنام وهو حال من الواو في {يَعْمُرُواْ} والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وَفِى النار هُمْ خالدون} دائمون {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} عمارتها رمُّ ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا، لأنها بنيت للعبادة والذكر ومن الذكر درس العلم {مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الأخر} ولم يذكر الإيمان بالرسول عليه السلام لما علم أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاقترانهما في الأذان والإقامة وكلمة الشهادة وغيرها، أو دل عليه بقوله {وَأَقَامَ الصلاة وَءاتَى الزكواة} وفي قوله {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} تنبيه على الإخلاص، والمراد الخشية في أبواب الدين بأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، إذ المؤمن قد يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها.
وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها: فأريد نفي تلك الخشية عنهم {فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم لأن {عَسَى} كلمة إطماع، والمعنى إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها عند الله دون من سواهم.


{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الأخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية، ولا بد من مضاف محذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله. وقيل: المصدر بمعنى الفاعل يصدقه قراءة ابن الزبير {سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام} والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة وأن يسوي بينهم، وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما. نزلت جواباً لقول العباس حين أسر فطفق علي رضي الله عنه يوبخه بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم تذكر مساوينا وتدع محاسننا. فقيل: أولكم محاسن؟ فقال: نعمر المسجد ونسقي الحاج ونفك العاني. وقيل: افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة، وعلي رضي الله عنه بالإسلام والجهاد، فصدق الله تعالى علياً {الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} أولئك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} من أهل السقاية والعمارة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} لا أنتم والمختصون بالفوز دونهم {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم} {يُبْشُرهم} حمزة {بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان وجنات} تنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف {لَّهُمْ فِيهَا} في الجنات {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} دائم {خالدين فِيهَا أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا ينقطع. لما أمر الله النبي عليه السلام بالهجرة جعل الرجل يقول لابنه ولأخيه ولقرابته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته أو ولده فيقول تدعنا بلا شيء فنضيع فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزل {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} أي آثروه واختاروه {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ} أي ومن يتولى الكافرين {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون}.
{قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم وَعَشِيرَتُكُمْ} أقاربكم وعشيراتكم أبو بكر {وأموال اقترفتموها} اكتسبتموها {وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} فوات وقت نفاقها {ومساكن تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} وهو عذاب عاجل أو عقاب آجل أو فتح مكة {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} والآية تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين، إذ لا تجد عند أورع الناس ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأموال والحظوظ.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} كوقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة. وقيل: إن المواطن التي نصر الله فيها النبي عليه السلام والمؤمنين ثمانون موطناً، ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها {وَيَوْمَ} أي واذكروا يوم {حُنَيْنٍ} وادٍ بين مكة والطائف كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فساءت رسول الله عليه الصلاة والسلام {إِذْ} بدل من {يَوْمٍ} {أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود، فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته، وأبو سفيان ابن الحارث بن عمه آخذاً بركابه فقال للعباس: (صح بالناس) وكان صيَّتاً، فنادى: يا أصحاب الشجرة فاجتمعوا وهم يقولون: لبيك، لبيك نزلت الملائكة عليهم الثياب البيض على خيول بلق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفأ من تراب فرماهم به ثم قال:
«انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا وكان من دعائه عليه السلام يومئذ: «اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان» وهذا دعاء موسى عليه السلام يوم انفلاق البحر {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} {ما} مصدرية والباء بمعنى (مع) أي مع رُحبها وحقيقته ملتبسة برحبها على أن الجار والمجرور في موضع الحال كقولك (دخلت عليه بثياب السفر) أي متلبساً بها، والمعنى لم تجدوا موضعاً لفراركم عن أعدائكم فكأنها ضاقت عليكم {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} ثم انهزمتم {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} رحمته التي سكنوا بها وأمنوا {على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} يعني الملائكة وكانوا ثمانية آلاف أو خمسة أو ستة عشر ألفاً {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري. {وذلك جَزَاء الكافرين}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5